Article

دَوار

دَوار 1

دَوار

 

بقلم/ نهال زين

تقف “جميلة” في غرفتها أمام مرآة طويلة تعكس صورة جسدها كاملًا، تدقق النظر في تفاصيل جسدها في المرآه، تتخفف من ملابسها الخارجية تنظر إلى ثدييها تحرك حمّالات مَشد الصدر الذي ترتديه وتقارن ترهله، ثم تنظر إلى بطنها باشمئزاز تراها ممتلئة تخفي حدود خصرها، تنزل بعينيها إلى أردافها تضغط بيديها على أكثر النقاط بروزًا ثم تضربها بعنف، تدور أمام المرآة مشرئبة بوجهها نحوها لترى انعكاس ظهرها، دهون مُتراكمة أخفت تقاسيم جسدها ومنحنياته الأنثوية، تتحسس جلدها أعلى الفخذ تلاحظ خطوطًا بيضاء وأخرى حمراء بفعل تمدد الجلد ونُدبًا غائرة تشبه قشرة البرتقالة، تدور مرة أخرى في مواجهة المرآة وتتخيل أنها تستطيع قص الجزء المتدلي من بطنها، وبينما هى كذلك، تشعر بخفِّة في رأسها واضطراب في مجال الرؤية.

يبدأ جلدها في التعرّق رغم برودة أطرافها. يتسارع خفقان قلبها ويعلو صدرها ويهبط وكأن روحها تنسحب منها. تشعر بالدوار لكنها لا تستطيع أن تحدد هل هى التي تدور أم أن الغرفة هى التي تدور من حولها، أم الاثنان معًا؟

وكأن الغرفة قد تحولت إلى مدار تدور فيه الصور المعلّقة على الجدران كالكواكب، صور لعارضات أزياء وممثلات ومغنيات على إختلافهن تجمعهن كلهن صفة واحدة أساسية جسد نحيف ومنحنيات أنثوية واضحة. في سرعة دورانهم تتماهى التفاصيل والألوان مكونة مدار ثان، تدور الفتاة في فَلَكِه لتسقط فجأة على الأرض غائبة عن الوعي..

تدخل أمها الغرفة تجري نحوها وتجلس بجانبها على الأرض تشهق شهقة الفزع وتضرب على صدرها: “تاني يا جميلة؟ قلتلك حرام عليكي نفسك!” يستدعي صوتها قدوم الأب يفتِّش في أرفف الخزانة علَّه يجد شيئًا يستخدمه لإفاقتها تصطدم يده بشرائط أدوية وعلب مختلفة، أعشاب للتخسيس، أقراص لزيادة معدل الحرق في الجسم، أقراص تمنع امتصاص الدهون، أعشاب مُلينة..

يذهب إلى رفٍ آخر يأخذ زجاجة رائحة ويتجه نحو ابنته التي لازالت غائبة عن الوعي. يفشل في إفاقتها فيقرر الذهاب بها إلى المستشفى، يحملها من على الأرض لا يبذل جهدًا يُذكر -رغم كِبر سنه- هزيلة هى خفيفة كالريشة كالورقة في مهب الريح أو كما تقول أمها جلد على عظم!

احجز جلسة مع معالج يمكنه مساعدتك فيما يتعلق بهذا الموضوع
( المراجعات)
عرض الصفحة الشخصية
( المراجعات)
عرض الصفحة الشخصية
( المراجعات)
عرض الصفحة الشخصية
( المراجعات)
عرض الصفحة الشخصية

في المستشفى تنام جميلة كالجثة، باهتة البشرة مُسطَّحة البطن. ضلوع قفصها الصدري بارزة، والمحلول الوريدي مُعلق بجانبها وتجلس أمها باكية على طرف سريرها. يطلب الطبيب التحدث مع الأب على انفراد وينصحه بعرض جميلة على طبيب نفسي. الأب حزين لكنه غير متفاجئ، هو يعلم اهتمام ابنته بالأنظمة الغذاية وطرق خسارة الوزن منذ أعتاب مرحلة المراهقة، في البداية كانوا متحمسين لهذا ومعجبين بالوزن المثالي الذي وصلت له لكن الأمر بدأ يأخذ مُنحنى مُخيف، عندما بدأت جميلة ترى نفسها بشكل مختلف عما يراه الآخرون، تضع إصبعها في فمها عقب كل وجبة لتتقيأ خوفًا من زيادة الوزن، ثم تصر على تناول نوع واحد من الفاكهة لمدة أسابيع، وأخيرًا اختارت الصيام لفترات طويلة وتجويع نفسها! ولم تكن تلك هى المرة الأولى التي تدخل فيها جميلة المستشفى فقد سبق أنها عانت من نزيف بسبب نقص أحد الفيتامينات.

“فقدان الشهية العصبي”: هوسًا بخسارة الوزن بسبب خوفًا مَرضيًا من السمنة، هذا ما قيل لهم في عيادة الطبيب النفسي. شرح الطبيب لجميلة حالتها وأخبرها أن مشكلتها الحقيقية توجد في إدراك صورتها الذاتية، وأنها قد تحتاج إلى تدخل دوائي لضبط كيمياء الدماغ حتى ترى صورة جسدها على حقيقته. وتحدث إلى أسرتها بأنهم بحاجة إلى التدرب على مساعدتها على تناول الطعام وتقبُّل نَفسِها وإن أصرت على رفض الطعام سيتم حجزها في المستشفى لتستعيد وزنها الطبيعي حتى لا تتدهور صحتها أكثر.

“يا جميلة الإنسان مش سعرات حرارية وجرامات الإنسان مشاعر، عاوزك تهتمي بمشاعرك تسألي نفسك كل شوية أنا حاسة بإيه دلوقتي؟ وليه؟ وتكتبي، اكتبي في نوتة وهاتيها معاكي المرة الجاية.”

استمعت جميلة إلى الطبيب وأرادت أن تشاركه الحديث، هى تشعر بأنها لا شئ، عديمة القيمة وغير محبوبة. أحبت الجوع لأنها لم تنجح في تحقيق شئ في حياتها غيره، كلما جاعت أكثر كلما شعرت بالسيطرة على نفسها وبالتحكم في زمام الأمور. ولكن ما الذي يعيقها عن الكلام؟ اكتفت جميلة بهز رأسها بالموافقة. فكَّرت.. هل أفرطَت في العزلة والصمت مثلما أفرطَت في الجوع فنسى لسانها أنه قد تعلَّم النطق يومًا؟ هل خسرَت الحروف كما خسرَت كيلوجراماتها؟ وإن كان هذا ما حدث فما الذي فقدته أيضًا أثناء رحلة فقد الوزن؟!

خرجت جميلة من عند الطبيب النفسي وقد قررت بداخلها البحث عن هذا المرض على الإنترنت لتفهم حالتها أكثر.

جلست جميلة في غرفتها على سريرها أمام التلفزيون تتنقل بين القنوات تحاصرها إعلانات أجهزة التخسيس وصور السيدات “قبل وبعد” تمسك النوتة والقلم لتكتب: “أنا حاسة إني بجري من حاجة بتجري ورايا مش عاوزين يسيبوني في حالي أنا بكره جسمي بكره نفسي..” تعود إلى التلفزيون، تقف عند برنامج يستضيف خبيرة تجميل تتحدث عن أحدث طرق جعل الشعر أملسًا لفترة من ستة أشهر إلى سنة، تمسك جميلة جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بها وبدلًا من البحث حول مرضها كما قررت، تفتح جميلة حسابها على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك” لتدخل إلى مجموعة مشتركة بها هى وكثير من الفتيات المهتمات بعالم التجميل والرشاقة والموضة، المجموعة ذاتها التي عرفت منها عن أنظمة التنحيف القاسية ورياضة “الزومبا” لرفع معدل الحرق وأدوية التحكم في الوزن وأعشاب للحصول على بطن أملس وعمليات شفط الدهون وتدبيس المعدة.. لتضع منشورًا مفاده: “يا بنات حد يعرف بيوتي سنتر كويس أعمل عنده فرد لشعري بالكرياتين؟”

تمت.